مدخل مهم .. لفهم إشكال سيادة الأمة والشريعة
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
من المداخل المهمة التي تكشف لك محل الخلل في سجال سيادة الأمة والشريعة، ومن خلالها تسقط كثير من الإشكالات والإيرادات، المدخل التالي:
يقول لك:
لا يوجد في النظم السياسية المعاصرة شيء اسمه إرادة مطلقة للأمة أو للأكثرية، كل النظم السياسية المعاصرة لديها قائمة طويلة من الحقوق والحريات والمفاهيم تقيد هذه الإرادة، إرادة الأكثرية ليست مطلقة، بل مقيدة بفلسفة ومنظومة حاكمة عليها، تجعل إرادتها مقيدة بما لا يخالف هذه المنظومة، فهذه المبادئ تشكل مبادئ فوق دستورية، لا يحق لأي دستور أن يتجاوزها.
فلا يمكن للأكثرية أن تصوت على حرمان الأقلية من أي حق من حقوقهم تحت أي مبرر، بل وثم تفصيلات دقيقة لا يمكن تجاوزها لأنها من الحقوق الطبيعية المستحقة للإنسان لا يمكن للأكثرية أن تتجاوزها.
أما الدين، فلأن هذه المنظومة تقوم على مرجعية لا تعتمد الدين، فليس من ضمن المنظومة الملزمة للأكثرية أحكاماً دينية، بل وهذه الأحكام مبعدة لأن من المنظومة الملزمة فصل الدين عن السياسة.
فهم هذا المدخل يضع يدك على محل الخلاف جيداً، وتعرف من أين جاء الخلل:
من يقول بسيادة الأمة ولو أقصت الشريعة، ويجعل الشريعة منوطة برأي الأمة، يجعل إرادة الأكثرية مقيدة بالحقوق حسب المنظومة الليبرالية، وأما أحكام الإسلام فلم يدخلها ضمن هذه الحقوق لأنه غير مدرج في المنظومة الليبرالية.
فلديه إشكال كبير مع فرض الإسلام، ويستغرب كيف تفرضه بدون إرادة؟
ومن الذي يفرضه؟
ولماذا تتعدى على حق الأمة؟
ولماذا تخالف العقد؟
وإذا خالف الناس هل تقاتلهم؟
الخ هذه الأسئلة.
جميل ..
جرب أن تقلب هذه الأسئلة على ما تؤمن (المنظومة المعاصرة) بضرورة إدراجه، فما كان جوابه عنه، فهو بالضبط نفس جواب المسلم عن الإلزام بالإسلام.
هل يمكن للأكثرية أن تطالب بحرمان الأقلية من بعض – لاحظ بعض- الحقوق اليسيرة للأقلية؟
هل يمكن للأكثرية أن تمنع الأقلية من التصويت؟
هل يمكن للأكثرية أن تضع حدوداً تضيق على حريات الناس؟
بالتأكيد: لا.
جميل.
هات ذات الأسئلة التي تواجه بها الشريعة هنا:
كيف تخالف إرادة الأمة؟
هل ستقاتلهم؟ هل ستشكل انقلاباً عسكرياً؟
كيف تخالف عقد الناس؟
من الذي سيفرض هذه القيود على الأمة؟
الخ.
هل عرفتم الآن محل الإشكال؟
محل الإشكال أن الحكم الإسلامي يراد تطبيقه في ظل منظومة فكرية مختلفة، فيخرج لك نموذج مشوهاً، لا هو الحكم الإسلامي، ولا هو الحكم الديمقراطي الليبرالي.
نعود للسؤال التي تكرر في الحلقة:
ماذا لو أن 90% اختار غير الإسلام؟
قبل الجواب على هذه السؤال، فهذا السؤال أصلاً مبني على أنك تريد تحكيم الإسلام بناءً على منظومة مختلفة.
كيف؟
لأنه حتى يأتي لك مثل هذه النسبة، لا بد أولاً أن تقرر أن من حق الناس أن يختاروا الشريعة أو يرفضوها، وهذه مخالفة قطعية للإسلام.
ثم تجعل من حق رافضي الشريعة أن يجتمعوا ويتحزبوا وتفتح لهم المنابر والإعلام حتى يؤثروا على الرأي العام ويوجهوا الناس نحو وجهتهم المعارضة للشريعة، وهذه مخالفة مركبة قطعية للإسلام.
ثم بعد هذا يجري التصويت، ويكون ملزماً، وتترك الشريعة وتكون المشروعية لغيرها.
وكل هذه مخالفات قطعية، صار فيها الإسلام محكوماً بمنظومة مختلفة، ومقيداً بفلسفة منافرة له تماماً.
فقبل الجواب على هذا السؤال، لا بد أن تفهم أن السؤال لم يطرح إلا في ظل نظام لا يؤمن بالإسلام ولا يطبقه.
لهذا، هات هذا السؤال في المبادئ التي لا يقبل التصويت عليها،
ماذا لو أن الأكثرية أرادت حرمان الأقلية من حقوقها؟
سيقول لك مباشرة: لا يحق لهم ذلك.
بل ولا يمكن أن يقع هذا أساساً، لأن النظام لا يعطي الأكثرية هذا الحق، ولا يمكن لهم أن يصوتوا، بل وثم إشكال كبير في مجرد الحديث عنه، فلن يكون له الحرية الكافية في أن ينشر مثل هذه الأفكار لأنها تضر المجتمعوتعرض المبادئ الدستورية للخطر.
فمحل الإشكال أننا نلتزم ونرضى بكافة القيود التي تضعها النظم المعاصرة – وهي مستمدة من ثقافة مختلفة- ولا نجد أي حرج في الالزام بها وعدم التصويت عليها وجعل العقد بديهي بها ولا يتصور بدونها، وأما أحكام الإسلام التي هي من صميم دينننا وثقافتنا وتاريخنا فلا بد له من تصويت وكلام كثير!
إذا فهمتَ هذا فلا تتعجب إذا علمتَ أن بعض من يجادل في لزوم الشريعة من دون اختيار وتصويت، هو نفسه يقرر أن قيادة المرأة للسيارة حق طبيعي لا يجوز التصويت عليه!
وآخر يقرر أن عمل المرأة في وظيفة مختلطة حق طبيعي يجب فرضه ولو خالف الأكثرية!
هذا هو المدخل، وفي الموضوع تفصيلات وإشكالات عديدة، سبق نقاشها وتحريرها – من عدد من الأفاضل - في مقالات عدة سابقة، خصوصاً الخلط بين موضوع المشاركة لأجل تحقيق المصالح ودرء المفاسد، وبين جعلها أصلاً شرعياً محكماً.
خاتمة/
في أثناء مراجعتي لكتب الفقه السياسي المعاصر في الفترة الأخيرة كنت أتتبع كلام المعاصرين في السيادة، وكنت أظن قبل البحث أن ثم خلافاً سيكون بينهم ولو محدوداً، فتعجبت من كون هذه المسألة ظاهرة جداً بحيث عجزت من تقصي البحث، فعندي الآن أكثر من 90 مؤلفاً معاصراً كان لهم رؤية واضحة في الموضوع، سأعود لها في مقالة مفردة بإذن الله.
تقبل الله منا ومنكم.